نحو موقف أوروبي أقوى بشأن إسرائيل–فلسطين

وقف إطلاق النار في غزة صامد، لكن إسرائيل تعزز سيطرتها على جميع الأراضي المحتلة، الأمر الذي يضعف الآمال بتسوية الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني. في هذا المقتطف من قائمة التطورات الجديرة بالمراقبة لعام 2025، تستكشف مجموعة الأزمات كيف يستطيع الاتحاد الأوروبي المحافظة على فسحة لتسوية تفاوضية

مثل وقف إطلاق النار في غزة انفراجاً كبيراً للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء. خلال الخمسة عشر شهراً التي تلت هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 في جنوب إسرائيل، قُتل أكثر من 46 ألف فلسطيني، طبقاً لسلطات قطاع غزة (وهناك تقديرات أعلى)، مع وجود أعداد لا حصر لها من آخرين ما يزالون حتى الركام، مع متابعة إسرائيل لحملتها العسكرية بهدف تدمير التنظيم الإسلامي. أخرج الهجوم معظم سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة من منازلهم، مع نزوح كثيرين منهم مرات عدة، وسط أوضاع حذرت الأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 من أنها كانت تقترب من المجاعة. في هذه الأثناء، ظل 94 من الرهائن الذين أسرتهم حماس ومجموعات أخرى خلال هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر يعانون في الأسر، مع مناشدة أُسَرهم في إسرائيل للحكومة لتسريع إطلاق سراحهم. في 19 كانون الثاني/يناير، حُررت ثلاث نساء، إضافة إلى 90 فلسطينياً كانوا معتقلين في السجون الإسرائيلية، مع دخول الهدنة التي طال انتظارها حيز التنفيذ. تبع ذلك المزيد من تبادل الرهائن بالأسرى، ومن المزمع استمرار عملية التبادل.

وقف إطلاق النار موضع ترحيب لكنه هش، لأسباب كانت مجموعة الأزمات قد أوردتها سابقاً. لقد أشارت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى أنها ستستأنف الحرب بعد المرحلة الأولى من الهدنة؛ بينما المناورات التي أجراها الجيش الإسرائيلي تضعه في موقع يمكِّنه من إعادة احتلال أجزاء من القطاع مباشرة وعلى نحو دائم. غيَّر الجيش الوضع الديمغرافي والجغرافي للقطاع، فركز معظم الفلسطينيين في الجنوب بينما اقتطع ممرات عسكرية ومناطق عازلة. كجزء من المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، تعهدت إسرائيل بسحب جيشها من كل المناطق إلَّا منطقة عازلة داخل قطاع غزة، على طول حدوده مع إسرائيل. في 27 كانون الثاني/يناير، انسحبت القوات الإسرائيلية جزئياً من محور نتساريم، الذي يقسم قطاع غزة إلى قسمين، وعاد عشرات آلاف النازحين الفلسطينيين إلى الشمال، ما يشير إلى أن إسرائيل ستجد صعوبة أكبر في إعادة إطلاق حملتها العسكرية. لكن من غير الواضح ما إذا كانت ستكمل انسحابها، ومقدار الجهد الذي ستبذله إدارة ترامب، التي يمكن المجادلة بأن ضغطها على إسرائيل أفضى إلى اتفاق وقف النار، لجعل ذلك يحدث. رغم أن حماس أُضعفت لكنها ما تزال القوة الفلسطينية المهيمنة في قطاع غزة – الأمر الذي لا يقبله كثير من الإسرائيليين.

في الضفة الغربية، لا تزال الحكومة الإسرائيلية، التي تضم وزراء من اليمين المتطرف من الحركة الاستيطانية، تُوسِّع المستوطنات، مع تسارع إيقاع التوسيع بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. لقد تصاعدت التوترات في الضفة الغربية إلى حد كبير، مع حدوث عدد من الهجمات الفلسطينية على إسرائيليين، وغارات للجيش الإسرائيلي وحالات تطويق وحصار للعثور على مقاتلين، وموجات متزايدة من عنف المستوطنين، وطردالفلسطينيين من قراهم وفرض المزيد من القيود على حركة الفلسطينيين – وتَكثَّف كل ذلك بعد وقف إطلاق النار في قطاع غزة. ربما تهدف إسرائيل، التي تضم الضفة الغربية بحكم الأمر الواقع، إلى ضم أجزاء من الضفة رسمياً، تحقيقاً لطموح اليمين الاستيطاني منذ وقت طويل.

إسرائيل ماضية في مسار لإعادة تشكيل وتعزيز سيطرتها على كلا المنطقتين، الأمر الذي يقلص الآمال بالتوصل إلى تسوية للصراع الإسرائيلي–الفلسطيني

لقد نزعت أوروبا إلى التعامل مع قطاع غزة والضفة الغربية على نحو منفصل، لا سيما منذ سحبت إسرائيل مستوطناتها وجنودها من القطاع في عام 2005. يبدو أن الاختلافات في السياسة الإسرائيلية حيال المنطقتين تتقلص. من الناحية المادية، فإن غزة المدمَّرة هي الأسوأ بكثير من بين المنطقتين. لكن من بعض النواحي، فإن قطاع غزة والضفة الغربية يعكس بعضهما بعضاً. خلال الحرب، وسّع الجيش الإسرائيلي نطاق قصفه لكلا المنطقتين ومزقهما؛ وحتى لو صمد وقف إطلاق النار، فإن إسرائيل أشارت إلى أنها ستستمر بالاحتفاظ بمناطق عازلة في قطاع غزة. وقد صرح القادة الإسرائيليون علناً أنهم يريدون منع قيام دولة فلسطينية في كلا المنطقتين، من أجل تحقيق رؤيتهم في “إسرائيل الكبرى“، ويقول البعض إنهم يريدون إعادة بناء المستوطنات في قطاع غزة. أقر الكنيست بغالبية ساحقة قراراً إعلانياً ضد قيام دولة فلسطينية في حزيران/يونيو 2024. رغم وقف إطلاق النار في قطاع غزة، فإن إسرائيل ماضية في مسار لإعادة تشكيل وتعزيز سيطرتها على كلا المنطقتين، الأمر الذي يقلِّص الآمال بالتوصل إلى تسوية للصراع الإسرائيلي–الفلسطيني.

الاتحاد الأوربي، المقيَّد بالانقسامات الداخلية وبتبعيته لواشنطن، أخفق باستمرار بممارسة النفوذ السياسي على الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، رغم دعمه القديم لحل الدولتين وتقديم المساعدات للفلسطينيين. الآن تتبع إسرائيل صراحة سياسات يبدو أنها تهدف إلى إلغاء حق تقرير المصير للفلسطينيين على نحو دائم، وتحدِّي رؤية الاتحاد الأوروبي المعلنة للمنطقة. ما تزال مقاربة الإدارة الأميركية الجديدة غير مؤكدة؛ فرغم أن الرئيس دونالد ترامب رمى بثقله خلف وقف إطلاق النار في قطاع غزة، فإن فريقه يدعم على الأقل جزءاً من أجندة الحكومة الإسرائيلية التوسعية. بالفعل، ففي 26 كانون الثاني/يناير، أشار ترامب نفسه إلى أنه كان قد ضغط على مصر والأردن لاستقبال المزيد من اللاجئين الفلسطينيين. إذا كان لبروكسل أن تجد صوتها، فإن هذا هو الوقت لفعل ذلك.

إذا تمكنت أوروبا على الأقل من تحقيق بعض التقدم في تجاوز انقساماتها، ينبغي على الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء القيام بما يلي:

  • الدفع نحو أسرع وسائل إيصال المساعدات الإنسانية وأكثرها فعالية إلى قطاع غزة من أجل تعزيز صمود وقف إطلاق النار. وينبغي على العواصم الأوروبية الضغط على إسرائيل ومصر لتخفيف إجراءات التفتيش لشاحنات المساعدات. كما يمكنها النظر في التشجيع على إقامة ممر بحري للمساعدات إلى قطاع غزة من أوروبا، بالتنسيق مع السلطات الإسرائيلية والفلسطينية. وينبغي أن تستمر في الضغط على إسرائيل للسماح باستمرار وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، الجهة الأكثر رسوخاً وقدرة على تقديم المساعدات في قطاع غزة، بمتابعة عملياتها، من خلال الامتناع عن تنفيذ قانونين يحظران فعلياً عمل الوكالة الحيوية للمحافظة على الحياة في إسرائيل والأراضي المحتلة.

  • استعمال الاجتماع المزمع عقده في 23 شباط/فبراير لمجلس الشراكة الأوروبية الإسرائيلية، وهي المنصة السياسية الأعلى في الاتحاد الأوروبي للنقاشات مع الدول الشريكة، لكي توضح للحكومة الإسرائيلية أن الاتحاد الأوروبي يعارض ترسيخ الحكم الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. مثالياً – رغم أنه لا بد من الإقرار أن عدة دول تعارض فعل ذلك – يمكن للاتحاد الأوروبي أن يؤكد على أن تعليق أحكام معينة في اتفاق الشراكة الأوروبية الإسرائيلية موضوع على الطاولة ما لم تنسحب إسرائيل من قطاع غزة، استناداً إلى أحكام المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار (على فرَض التزمت حماس أيضاً بجانبها من الصفقة)، وانخراط إسرائيل في حوار ذي معنى حول كيفية تحقيق تقدم بشأن الهواجس المتعلقة بالضفة الغربية أيضاً.

  • استعمال أول حوار سياسي رفيع المستوى على الإطلاق بين الاتحاد الأوروبي والسلطة الفلسطينية، المزمع إجراؤه في آذار/مارس، للضغط على السلطة الفلسطينية للتوصل إلى اتفاق لإقامة إدارة فلسطينية مؤقتة تتكون من مسؤولين مستقلين مدعومين من جميع الفصائل الفلسطينية، للإشراف على إعادة الإعمار والحوكمة في قطاع غزة. يمكن لبروكسل أن تشجع التزام السلطة الفلسطينية من خلال إصدار تحذيرات بأنها يمكن أن تجمد المساعدات التنموية وعروض الاعتراف بالدولة.

  • بالنظر إلى الرأي الاستشاري الذي قدمته محكمة العدل الدولية في 19 تموز/يوليو 2024 فيما يتعلق بعدم قانونية الاحتلال العسكري الإسرائيلي، ينبغي على الاتحاد الأوروبي أيضاً النظر في توسيع العقوبات لاستهداف مؤسسات ومسؤولين إسرائيليين أكبر وأكثر محورية ضالعين في المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، بما في ذلك وزراء رفيعي المستوى في الحكومة والمؤسسات المالية الضالعة في توجيه أو تمكين الأنشطة الاستيطانية.

فلسطينيون يحملون أمتعتهم وسط ركام المباني في حي مدمَّر في مدينة رفح جنوب قطاع غزة في 20 كانون الثاني/يناير 2025، مع عودة السكان بعد اتفاق وقف إطلاق النار في اليوم السابق بين إسرائيل وتنظيم حماس الفلسطيني BASHAR TALEB / AFP

المشهد الذي تغير في قطاع غزة

لقد أعادت الحملة العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة إعادة تشكيل المشهد الاجتماعي والسياسي في القطاع. فقد دمر القصف الإسرائيلي المكثف نحو ثلثي المباني في قطاع غزة، أو ألحق بها ضرراً كبيراً، بما في ذلك ما يقدر بـ 90 بالمئة من وحداتها السكنية، إضافة إلى جزء كبير من أراضيها الزراعية وكثير من مصادرها المائية، الأمر الذي جعل أجزاء كبيرة من القطاع غير قابلة للسكن. تمركز الجيش في محور فيلادلفيا، وهي منطقة عازلة ضيقة على طول الحدود بين قطاع غزة ومصر، حيث يصر نتنياهو على أن يظل المحور تحت السيطرة الإسرائيلية. كما قُطع القطاع نصفين بمحور نتساريم، الواقع إلى جنوب مدينة غزة تماماً. أخيراً، وسَّع الجيش منطقة عازلة كانت موجودة على طول الحدود الشمالية والشرقية للقطاع مع إسرائيل.

يبلغ نطاق الدمار أقصى درجاته في شمال غزة، حيث شنَّت إسرائيل عدة هجمات لإخراج مقاتلي حماس، ولا سيما من مخيم جباليا للاجئين وبلدتي بيت لاهيا وبيت حانون المجاورتين. دمرت القوات الإسرائيلية هاتين المنطقتين، وأجبرت 300,000 – 400,000 من سكانهما على الانتقال جنوباً وتركت أولئك الذين ظلوا على حافة الموت جوعاً. في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، حذَّر التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي من وجود “احتمال قوي بأن مجاعة قد باتت وشيكة” في أجزاء من شمال قطاع غزة.

من المرجح أن يكون وقف إطلاق النار قد أنقذ المنطقة من وقوع السيناريو الأسوأ، لكن الجوع ما يزال مبعثاً لمخاوف كبيرة

من المرجح أن يكون وقف إطلاق النار قد أنقذ المنطقة من وقوع السيناريو الأسوأ، لكن الجوع ما يزال مبعثاً لمخاوف كبيرة. طبقاً للاتفاق، من المزمع دخول 600 شاحنة مساعدات يومياً إلى قطاع غزة خلال المرحلة الأولى من الهدنة ومدتها 42 يوماً. قالت الأمم المتحدة إن 630 و915 شاحنة قد دخلت في اليومين الأول والثاني من وقف إطلاق النار على التوالي، لكن ما يزال هناك أسئلة جوهرية بشأن من يستطيع توزيع المساعدات على المدى الطويل. ستكون الجهة الأكثر قدرة على التوزيع هي الأونروا، الوكالة الإنسانية الداعمة للاجئين الفلسطينيين وشريان حياة سكان قطاع غزة بشكل عام. لكن في 28 تشرين الأول/أكتوبر، أصدر الكنيست قانونين يحظران الأونروا فعلياً، ويُفترض أن يدخلا حيز التنفيذ في 30 كانون الثاني/يناير.

تقول إسرائيل إن منظمات أخرى تابعة للأمم المتحدة تقوم أصلاً بواجبات الأونروا، لكن هذا الادعاء يمسُّ بالطبيعة الفريدة للوكالة. على مدى 75 عاماً، عملت الأونروا وكأنها مؤسسة شبه حكومية، توفر التعليم، والرعاية الصحية والوظائف لجزء كبير من السكان المحليين. إضافة إلى دورها كمقدم للخدمات، فهي تمثل اعتراف العالم بنزوح الفلسطينيين وتجسد التطلعات والحقوق الوطنية الفلسطينية. في حين يمكن لوكالات أخرى أن تكون قادرة في النهاية على إيصال المساعدات، لا يستطيع سكان غزة المحاصرون تحمل فترة التكيُّف التي سيتطلبها ذلك، ولا يوجد أي بديل واضح للخدمات الأساسية الأخرى.

لا تتحدث الهدنة عن أعمال الشرطة في القطاع. خلال جزء كبير من الحرب، واجهت شاحنات المساعدات التي تمكنت من الوصول إلى القطاع عمليات نهب على أيدي عصابات إجرامية. من غير الواضح من سيحمي القوافل الأكبر الآن. إذا استمر النهب، وإذا حُظرت الأونروا من القيام بدورها المعتاد في التوزيع، يمكن أن يواجه آلاف الفلسطينيين النازحين الذين يعيشون في خيام ولا يحصلون إلَّا على القليل من المياه النظيفة، ويرتجفون في برد الشتاء ويعانون من الأمراض، صعوبات في الحصول على ما يكفي من الغذاء. في الأسابيع التي سبقت الهدنة، تجمَّد عدد من الأطفال الرضع حتى الموت، بينما كان سوء التغذية يعيق الإرضاع الطبيعي وكان حليب الأطفال شحيحاً. دون إمدادات يمكن الركون إليها ومقدمي مساعدات يعرفون الظروف المحلية، يمكن أن تتكرر مثل تلك المآسي.

ثمة أسئلة أخرى كبيرة تتعلق بالسيطرة على الأرض. تسمح أحكام وقف إطلاق النار للفلسطينيين من شمال قطاع غزة بالعودة إلى منازلهم أو (ما بقي منها)، وقد عاد كثيرون منهم. في الوقت الراهن، هدَّأت الهدنة من المخاوف من أن إسرائيل إما ستحتفظ بالشمال كمنطقة عسكرية منزوعة السكان، أو كما دعا بعض السياسيين الإسرائيليين، إعادة بناء المستوطنات هناك. لكن الشمال ليس المكان الوحيد في القطاع الذي يسيطر عليه الجيش. طبقاً لاتفاق وقف إطلاق النار، ستخلي القوات الإسرائيلية محوري فيلادلفيا ونتساريم، إضافة إلى أي أجزاء أخرى من قطاع غزة، باستثناء المنطقة العازلة على طول حدودها الشمالية والشرقية، مع نهاية المرحلة الأولى. في 27 كانون الثاني/يناير، سحبت إسرائيل جزئياً قواتها من محور نتساريم، رغم أن نتنياهو ادعى أنه لا يتعين عليهم مغادرة محور فيلادلفيا، رداً على انتقادات للاتفاق من اليمين الإسرائيلي المتطرف. إذا رفض سحب الجيش من هذه المنطقة، ستكون الهدنة في خطر.

ضم الضفة الغربية

في ظل الحملة العسكرية في قطاع غزة، سرَّعت إسرائيل مشروعها الاستيطاني في الضفة الغربية. لقد أقامت عدداً قياسياً من البؤر الاستيطانية بلغ 52 بؤرة، سبعٌ منها في المنطقة ب (أجزاء الضفة الغربية التي تقع، بموجب اتفاقات أوسلو، 1993-1995، تحت الإدارة المدنية الفلسطينية والسيطرة العسكرية الإسرائيلية)، في أول تطور من نوعه منذ تلك الاتفاقات. لقد تركزت اندفاعة الاستيطان سابقاً على ما سمته اتفاقات أوسلو المنطقة ج، التي تشكل 60 بالمئة من الضفة الغربية ويسكن فيها جميع المستوطنين الإسرائيليين البالغ عددهم 500,000 (باستثناء القدس الشرقية). طبقاً للأمم المتحدة، فإن نحو 300 أسرة فلسطينية يبلغ عدد افرادها 1,762 نسمة، بما في ذلك 856 طفلاً، هُجِّروا قسرياً من المنطقة ج منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 بفعل هجمات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، إضافة إلى فرض قيود على الوصول من قبل الجيش. 

    لقد صرح وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يُعدُّ حاكم الضفة الغربية بحكم الأمر الواقع، إن 2025سيكون العام الذي تفرض فيه إسرائيل السيادة الكاملة على الضفة. إضافة إلى تسريع بناء المستوطنات، يشرف سموتريتش على التغييرات البيروقراطية والسياسية التي تنقل السلطة في الضفة الغربية من ضباط الجيش إلى مسؤولين حكوميين مدنيين. ويرأس الوكالة المسؤولة عن ذلك، إدارة المستوطنات، مسؤول مدني تتمثل أجندته حصرياً في تلبية احتياجات السكان اليهود في الضفة الغربية. كما ذكر سموتريتش أيضاً خططاً لفرض انهيار السلطة الفلسطينية إضافة إلى حل الإدارة المدنية الإسرائيلية، وهي جناح الجيش الذي يشرف على الحياة المدنية للفلسطينيين. يشير استهداف هذين الكيانين – اللذين تسعى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بشكل عام إلى المحافظة عليهما – إلى أن أجزاء على الأقل من الحكومة الإسرائيلية تعمل ليس فقط على إحباط مساعي إقامة دولة فلسطينية مستقبلية بل أيضاً على الاستمرار في اقتلاع الفلسطينيين من أجزاء كبيرة من الضفة الغربية.

تترنح [السلطة الفلسطينية] تحت ثقل سنوات من سوء الإدارة، وتَراجُع المساعدات الأجنبية وإجراءات إسرائيل العقابية في منع وصول العائدات الضريبية

لقد باتت السلطة الفلسطينية جاهزة لتلقي ضربة مميتة. إنها تترنح تحت ثقل سنوات من سوء الإدارة، وتَراجُع المساعدات الأجنبية وإجراءات إسرائيل العقابية في منع وصول العائدات الضريبية، التي ألحقت المزيد من الضرر باقتصاد الضفة الغربية خلال حرب غزة. لقد قلصت الحرب – والآن وقف إطلاق النار، الذي تُصوِّره حماس على أنه انتصار – شعبية السلطة الفلسطينية، التي تعمل بشكل عام مع إسرائيل، مقابل التنظيم الإسلامي وآخرين يدعون إلى المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي. وما يزال محمود عباس، الذي دخل عامه العشرين رئيساً للسلطة الفلسطينية، مستمراً في إعاقة جهود تحقيق المصالحه بين حزبه فتح وحماس، بل حتى إحباط تشكيل لجنة مستقلة لحكم غزة بدعم من حماس. منذ كانون الأول/ديسمبر، تتحرك قوات أمن السلطة الفلسطينية لقمع المجموعات المسلحة في مدينة جنين ومخيم جنين للاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية، بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي يقوِّض أكثر شرعية السلطة الفلسطينية. رغم تحقيق بضعة انتصارات دبلوماسية بإقناع دول أخرى بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، يُنظَر إلى السلطة الفلسطينية على نطاق واسع في أوساط الفلسطينيين على أنها تهمل واجباتها أو متواطئة مع الاحتلال. رغم ذلك فإن انهيارها لن يعرض للخطر الخدمات الأساسية المقدمة لـ 3.2 مليون فلسطيني في الضفة الغربية فحسب، بل سيقوض أيضاً الاستقرار في المنطقة، وقد يؤدي إلى ارتفاع حدة العنف ضد إسرائيل نفسها، والجيش الإسرائيلي والمستوطنين.

سواء تحركت إسرائيل لضم الضفة الغربية رسمياً أم لا، فإنها تعيد تشكيل المنطقة بسرعة بطرق ستتطلب قدراً كبيراً من رأس المال السياسي لعكسها، وقد لا تفعل الإدارة الأميركية الجديدة الكثير لوقف أنشطتها. يبدو أن ترامب ومبعوثه للشرق الأوسط ستيفن ويتكوف قد ضغطا على إسرائيل للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، ويبدو أن البعض في فريقه للسياسة الخارجية ما يزال يأمل بالتوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، الذي ما تزال الرياض تصر على أنه سيتطلب قيام دولة فلسطينية أولاً. من جهة أخرى، فإن مسؤولين كباراً في إدارته، ومن بينهم السفير الأميركي في إسرائيل مايك هاكابي والسفيرة الأميركية في الأمم المتحدة إيليس ستيفانيك، روجوا لاعتقادهم بأن لإسرائيل حق توراتي في الضفة الغربية بأكملها. تلمح الإشارات حتى الآن إلى أن الإدارة لن تفعل الكثير لوقف التوسع الاستيطاني والضم، بل قد تشجعه. في واحد من أول إجراءاته كرئيس للولايات المتحدة، رفع ترامب العقوبات على المستوطنين العنيفين التي فُرضت بموجب الأمر التنفيذي الذي أصدره سلفه جو بايدن في  1 شباط/فبراير 2024. وقد عين نتنياهو أيضاً سفيراً جديداً في الولايات المتحدة هو يحيئيل ليتر، الذي يدعو بقوة إلى ضم الضفة الغربية وتفكيك السلطة الفلسطينية.

موقف أوروبي أكثر حسماً

بالنظر إلى أن الحكومات الأوروبية منقسمة بعمق بشأن إسرائيل–فلسطين، لم يكن الاتحاد الأوروبي قادراً على تشكيل جبهة موحدة لحماية آفاق التوصل إلى حل الدولتين. لقد لعبت أوروبا غالباً دوراً تابعاً في الدبلوماسية، ظهر مثال عليه على مدى العام الماضي خلال محادثات وقف إطلاق النار، التي قادتها الولايات المتحدة ودول عربية.

وبالنظر إلى الخلافات في بروكسل، فقد اتخذت عدة دول أوروبية خطوات أحادية على مدى العام الماضي للضغط من أجل التوصل إلى مقاربة أوروبية أقوى. اعترفت إيرلندا، والنرويج (ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي)، والسويد وسلوفينيا في عام 2024 بدولة فلسطين، وقد تتبعها دول أخرى. لقد التزمت معظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، على الأقل لفظياً، بتنفيذ أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت لارتكابهما جرائم مزعومة خلال حرب غزة. وقد فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على منظمات استيطانية وأفراد لهم علاقة بالاستيطان. وتنظر بعض العواصم الأوروبية في فرض عقوبات على سموتريتش وقادة ومؤسسات أخرى لها علاقة بالاستيطان، بما في ذلك مجالس الاستيطان الإقليمية.

تتمثل المهمة الفورية في إبقاء وقف إطلاق النار في غزة على مساره، على الأقل خلال مرحلته الأولى وتالياً حتى يكتمل. ينبغي على الاتحاد الأوروبي، الذي طالما قدم تمويلاً حيوياً للمساعدات الإنسانية في قطاع غزة، أن يضاعف جهوده لضمان وصول مساعدات كافية إلى العدد الكبير من الفلسطينيين المحتاجين. وسيكون الدعم الأوروبي حيوياً على نحو خاص في ضوء الفجوة التي أحدثتها إدارة ترامب، التي أمرت في 20 كانون الثاني/يناير بتعليق كل المساعدات الأميركية لمدة 90 يوماً. لقد سهَّل وقف إطلاق النار إيصال المساعدات، لكن ما يزال هناك عقبات. يمكن للاتحاد الأوروبي أن يحث مصر وإسرائيل على تخفيف عمليات التفتيش التي كانت – خلال الحرب – تؤخر قوافل المساعدات، التي تكون قد خضعت أصلاً للمراقبة من قبل الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى. أعلنت الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي كايا كالاس في 27 كانون الثاني/يناير أن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي وافقوا على إعادة بعثة المساعدات الحدودية إلى معبر رفح، الأمر الذي يمكن أن يساعد في زيادة تسهيل وتيسير العمليات. كما يمكن للاتحاد الأوروبي أن ينظر في فتح ممر بحري إلى قطاع غزة، بالتعاون مع السلطات الإسرائيلية والفلسطينية. الأمر الجوهري هو أنه ينبغي أن يضغط الاتحاد الأوروبي على إسرائيل كي تسمح للأونروا بمتابعة وظائفها في قطاع غزة والضفة الغربية.

كما ينبغي أن يدفع إسرائيل إلى متابعة الانسحاب من قطاع غزة، بما في ذلك من محوري فيلادلفيا ونتساريم، انسجاماً مع أحكام المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، لضمان جعل التعافي وإعادة الإعمار في القطاع قابلاً للحياة، وتمهيد الطريق لحكم الفلسطينيين لأنفسهم بمساعدة دولية. فيما يتعلق بالضفة الغربية، ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يفرض المزيد من الضغوط على إسرائيل لوقف التوسع الاستيطاني، وهي سياسة تنتهك القانون الدولي، وتديم العنف وتقضي على آفاق تقرير المصير للفلسطينيين.

حقيقة أن ألمانيا، التي تتمتع بثقل كبير في الاتحاد الأوروبي … وحفنة من الدول الأوروبية الأخرى تظهر دعماً أكبر لإسرائيل، يعقِّد العمل الجماعي

صحيح أنه ليس هناك الكثير في الوقت الحاضر مما يوحي بقدرة أوروبا على تجاوز الانقسامات التي منعت الجهود التي بذلت في الماضي لثني إسرائيل عن محاولاتها من تحقيق الزخم. حقيقة أن ألمانيا، التي تتمتع بثقل كبير في الاتحاد الأوروبي، هي من بين أكبر داعمي إسرائيل الاقتصاديين والعسكريين، ويمكن المجادلة أن حفنة من الدول الأوروبية الأخرى تظهر دعماً أكبر لإسرائيل، يعقِّد العمل الجماعي. باستثناء العقوبات الفردية، أحجم الاتحاد الأوروبي، جماعياً، عن استعمال نفوذ ملموس على إسرائيل، ولا سيما فيما يتعلق بالتعاون التجاري والاقتصادي. ولذلك يبقى من غير الواضح ما إذا كان الاتحاد الأوروبي يستطيع تجاوز انقساماته والتصرف على نحو أكثر حسماً – ولا سيما إذا دعمت واشنطن التوسع الاستيطاني أو ضم الضفة الغربية، وأعاقت إسرائيل المراحل التالية من وقف إطلاق النار في غزة.

يوفر اجتماع مجلس الشراكة الأوروبية الإسرائيلية القادم في شباط/فبراير فرصة للتعبير عن موقف أوروبي أكثر حزماً للحكومة الإسرائيلية. ويمكن أن يشكل الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في تموز/يوليو 2024 أساساً لاتخاذ إجراءات أقوى ضد الأنشطة غير القانونية مثل بناء المستوطنات. وهناك خيارات أخرى أيضاً لا يتطلب بعضها الإجماع. فقبل وقف إطلاق النار في غزة، طرح مسؤولون كبار، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، احتمال وقف صادرات أسلحة معينة على أساس أن إسرائيل قد تستخدم هذه الأسلحة في انتهاك للقانون الدولي الإنساني.

وبموازاة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الذي يزداد ترسخاً، يجب تطبيق المساءلة أيضاً على السلطة الفلسطينية. في الحوار رفيع المستوى في آذار/مارس، يجب أن يصر الاتحاد الأوروبي على أن يُظهر الرئيس عباس قدرة السلطة الفلسطينية على الحكم ليس من خلال قدرة قواتها الأمنية فحسب، بل من خلال التعددية السياسية والإدارة الاقتصادية السليمة. يمكن أن تبدأ بروكسل بالتعهد بتقديم المساعدة للجنة فلسطينية مستقلة لإدارة إعادة إعمار غزة، التي يجري التفاوض بشأن تشكيلها بوساطة مصرية (وتقويض من عباس). لن تكون هذه اللجنة خاضعة لسيطرة حماس، لكنها ستتطلب موافقتها – وهي فكرة غير مريحة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بالنظر إلى تصنيف حماس تنظيماً إرهابياً ومسؤوليتها عن هجوم 7 تشرين الأول/اكتوبر 2023، لكنها الخيار الوحيد القابل للحياة لدمج ما بقي من بنية الحكم التحتية في غزة ولردع التهديدات الأمنية المحلية لإدارة تقودها السلطة الفلسطينية. يمكن للاتحاد الأوروبي أن يطالب بضمانات بالشفافية لضمان استعمال أمواله على نحو سليم وبما ينسجم مع قوانين الاتحاد الأوروبي.

إذا دعمت الولايات المتحدة على نحو أكثر قوة ضم إسرائيل للضفة الغربية، ينبغي أن تفعل أوروبا ما في وسعها للمحافظة على فضاء لتسوية تفاوضية نهائية، بما في ذلك تقديم دعم قوي للمجتمع المدني الفلسطيني واتخاذ إجراءات ملموسة تفرض تكاليف على إسرائيل بسبب إغلاقها  لآفاق السلام. ستشكل هذه الخطوات تحدياً لما تفضله الولايات المتحدة، ومن المرجح أن تتسبب في إجراءات مضادة. لكن الانخراط المستدام من هذا النوع يمكن أن يساعد في المحافظة على الاهتمام العام، ودعم حياة وسبل عيش الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ومنع إخماد التطلعات الفلسطينية لتقرير المصير

The International Crisis Group

 

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *